في ١١ سبتمبر ٢٠٢٥، وجدت نفسي في غرفة صغيرة محاطة بالعشرات من الجدات الناشطات ذوات الشعر الفضي، يرتدين أساور مطاطية متعددة، وقمصان حركاتهن. كنا مجتمعين في مؤتمر ليوم واحد للنساء الناشطات في السلام في القدس. المُضيفات تبعوني، رنا وإستر، كانوا من بين المتحدّثين. كل البرنامج كان بالعبرية والعربية، ومعروض قدّامنا بترجمة انجليزية على الشاشة. كل البرنامج كان بالعبرية والعربية، ومعروض قدّامنا بترجمة انجليزية على الشاشة. “في حدا هون ما بيفهم عبري؟” — كانوا بدهم يعرفوا إذا لسا في داعي يترجموا كل كلمة لثلاث لغات. رفعت إيدي بخجل، محدقة بشدة في الأرض. ولما فهمت إني الوحيدة، تمتمت: "بس أنا لحالي… ما في داعي تترجموا عشاني."
بلحظة، مسكت إيدي ناشطة إسرائيلية كنت معجبة بها طوال اليوم، كانت قاعدة بصف قدّامي. طلعت في عيوني مباشرة، والغرفة كلّها سكتت، وقالتلي: "لا تقولي أبدًا 'أنا مجرد' — أبدًا." الموقف كله أخذ ثلاث ثواني بس، بس انحفر جواي للأبد.
وما زلت معلّقة بكلماتها، رح أحاول هون أحكي اللي شفته بأبسط طريقة بقدر عليها، يمكن كمان إنت، يا قارئ، يصير عندك أمل وتنغرس فيك دعوة لبناء السلام، جوّا نفسك وبرّاها وبين الدائرة تبعتنا.
رحمنا الله.
العلم الإسرائيلي يرفرف في الريح في شمال وادي الأردن.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
وقف إطلاق النار هي خطوة من ألف خطوة، لكنه ليس السلام. وأنا بكتب هالكلمات، آخر الناس اللي ظلّوا عايشين من بين الرهائن رجعوا حضن عائلاتهم، وبنفس الوقت يُنقل آلاف الأسرى السابقين من أحكام بالسجن المؤبد في زنازين ما شافت الشمس إلى الخراب والركام في غزة. هُم كمان، يمكن يرجعوا لعائلاتهم — جوعانين، هزلين، مهجّرين، بس… بعدهم بيتنفسوا — الحمد لله. شفت واحد منهم يحتضن أولاده الصغار اللي عُذِّب سنين لدرجة خَلّوه يصدّق إنهم ماتوا، وشفت واحد ثاني عم يضرب على ركبه وهو راكع عالأرض، ماسك بإيده إسوارته اللي كان عاملها لبنته، وعم يبكي: "عيلتي ماتت… عيلتي ماتت… بيتي، أولادي، كل شي راح… عيلتي ماتت."
يا الله، هذا العالم.
وسط هالصدمة اليومية والدوران اللي ما بوقف، أكتر ناس خطفوا قلبي هُم نشطاء السلام. هُم الهوا اللي بيدخل صدرك فجأة لما النفس بضيق. هُم الصوت الصافي اللي بيشقّ ضباب المحللين ورأي ورا رأي. قوتهم مش جايّة من السياسة ولا من نفوذ، قوتهم من شجاعة أخلاقية وحرية داخلية — وهذا لحاله مكافأة. ما عندهم وقت لليأس و التشاؤم. أملهم مش بس شعور، هو إشي بنبض في عظامهم، وارثينه من حكايات قديمة محفورة بتاريخ العيلة وبالكتب المقدسة من عصور مضت، ناس عانت كثير، بس ظلّت ماسكة رؤية للمحبّة وليوم أحسن. وبقوا يدعوا إلنا، إحنا — الجيل اللي إجى بعدهم.
منظر طبيعي لوادي الأردن الشمالي.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
شمال وادي الأردن
إيلي أفيدور، جندي إسرائيلي سابق خاض حرب يوم الغفران، واقف جنبي وتحت شمس بتلسع في بلدة صحراوية قاحلة في شمال وادي الأردن. الهوا المليان غبرة بيمدّ فوق الأرض الصخرية المحمرة، مع نسمة خفيفة بترحمنا من الحر، وست أعلام إسرائيلية عم ترفرف على تقريبا كل شي عالي. هالأعلام تحذير واضح واستهزاء، رافعينها المستوطنين اللي كل يوم بتحدّوا الإجماع الدولي، مرتكزين على قرار الأمم المتحدة ٢٤٢، ورافضين الاعتراف إنها هاي الأرض مش أرض إسرائيلية، بل أرض فلسطينية حسب القانون الدولي. جينا اليوم لنلتقي بأهل هالأرض — فلاحين من أجيال وأجيال، مع نسوانهم، ولادهم، مواشيهم و قطعانهم.
"تعالوا"، بحكي إيلي، "احكوا مع الناس"، ولوّح بإيده صوب كومات الركام، حجار البيوت المهدومة، براميل الميه البلاستيك المشقوقة، كنبايات ممزعة، حمار عطشان، وشادر مبقع مشدود عشان يظلّل. المضيف تبعنا، فارسي، فلاح فلسطيني كبير بالعمر وخلق هون بهالمكان. تعب سنين عمره واستثماره مبعثر تحت رجلينا. بيسمو المكان "الحلوة" — إسم كان يليق فيه زمان، يمكن، بس اليوم أبعد ما يكون عن اسمه... هو الجحيم اللي عايشينه. ابن فارسي قاللي: "كل يوم أصعب من اللي قبله".
إيلي أفيدور، جندي إسرائيلي سابق، يزور بلدة صحراوية قاحلة شمال وادي الأردن.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
المستوطنين دايمًا بييجوا، يهدوا خيامهم، وبيدعسوا سياج المواشي وبيخزقوا براميل الميه ويقلعوا الأشجار. قبل عشرين يوم بس، دبحوا ١٥٠ رأس من أغنامهم. إيلي وجماعة النشطاء في وادي الأردن، مجموعة من نشطاء السلام السلميين، قرروا يظلوا موجودين على مدار الساعة يوثقوا هاي الجرائم وغيرها من الاعتداءات اللي بيرتكبها المستوطنين. بقولولي إنه عند المستوطن أكل الجمبري خطية أكبر من إنه يؤذي فلسطيني.
مواشي فارسي واقفة وما بتتحرك، مجمّعين حوالين كام شجرة ظلالهم باقية. عطشانين. وفي نبع ميه حلوة جديد باخر الشارع — ٣٠ خطوة بس — بس أهل البلد الفلسطينيين ممنوعين يقربوله، النبع مخصص للجنود الإسرائيليين والمستوطنين اليهود بس. فارسي وابناؤه مجبرين يسوقوا مشوار طويل ويدفعوا ١٢ ضعف السعر بس عشان يعبوا ميه لمواشيهم. قال إيلي: "حوّلوا النبع لمنطقة جذب للزوار. تقدر تتمشى هناك، تحكي قصص وتحكي عن الله اللي مشّى اليهود في الصحراء من مصر لأرض الميعاد. بس هالميه مش إلنا. حزين أشوف بلدي بتعمل هالوجع كلّه".
(يسار) فارسي، مزارع فلسطيني مسن من مواليد الحلوة، وهي بلدة صحراوية قاحلة شمال وادي الأردن. (يمين) حمار فارسي يستريح بين المقطورات.
صور بواسطة ديفيد جونسون
حقوق الإنسان مش موجودة في إسرائيل.
إيلي أفيدور, ناشط سلام إسرائيلي, مقاتلون من أجل السلام
كمان عشر دقايق عالطريق، وصلنا عبيت أبو هاري وأم هاري، ومعنا كم واحد من عيلتهم يمكن يوصل عددهم لـ٣٥ نفر. أبو هاري انتقل ع هالأرض قبل أكتر من ٥٠ سنة، ومثل فارسي، عاش من شجر الزيتون وقطعان الغنم… لحد اليوم. مع الشاي ووقفة بائع تمر متجول، صارت أم هاري تحكيلي بحرقة عن التعب اللي زاد عليهم بعد الحرب. قبل أسبوع بس، جارتهم المستوطنة — ديدي — بعتت صحابها بليل يقطعوا أسلاك كهرباء الألواح الشمسية عندهم، فعطلوا ثلاجاتهم وخربوا الأكل وخلو الحر ياكلهم. وليالٍ ثانية، بيرجموا البيت بحجارة وهُم نايمين.
أبو هاري يلتقط صورة خارج منزل عائلته.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
المتطوعين بحطوا حالهم بالخطر عشان يوثقوا هالاعتداءات وغيرها، مع إنه لا في حماية ولا أمل قريب بانتهاء هالانتهاكات. من بين ٢٠٠ ناشط بهالمجموعة، حوالي ٦٠ شديدين النشاط — مثل كاي جك اللي صارله سنة ونص يزور فارسي وعيلته أسبوعيًا. بقول: "معظمنا بيجي بيوم بالأسبوع، أو يوم بالشهر، أو قد ما بيقدر. عادة بنقضي النهار أو الليل، ويمكن وجودنا يهدّي التوتر ويمنع العنف ويمكن نقدر نوقف التهجير القسري للمجتمع الفلسطيني بهالمنطقة".
سألتهم: "في مثال ممكن يوضح الصورة للقارئ الأمريكي؟" قالت إستر كوراني، المديرة الإسرائيلية الشريكة في مقاتلين من أجل السلام: "أظن أقرب شي هو كو كلوكس كلان" — تقصد جماعة متدينين متشددين عنيفين، بفكر عنصري كاره، المدعومين أحيانًا من السلطة، سواء بإهمال الدولة أو أحيانًا بطريقة مباشرة مثل سيارات الدفع الرباعي اللي تستخدم لبث الرعب بين الرعاة وقطعانهم.
صفارات الإنذار في الصباح
مع إنه جدّين لإستر فقدوا أهلهم وإخوتهم بالمحرقة في المجر، إلا أنهما اختارا – بشكل غير متوقع – قرروا يبعثوا أولادهم يتعلّموا ألماني. وبحكي هالحكي وأنا بسأل إستر من وين أجت عندها فكرة المقاومة واللاعنف. بتحكيلي: "هم فصلوا بين النازيين وبين اللغة. جدي كان دكتور أطفال، وكان يعالج أي ولد ييجي لعنده – حتى لو أبو هالولد هو اللي ودّى أمّه على قطار أوشفيتز — برضه كان يعالجه."
إستر كوراني، المديرة المشاركة الإسرائيلية لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، تلتقط صورة في بستان زيتون في الساحة الجانبية المجاورة لمكتب المنظمة في بيت جالا.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
ما بدهم يغرقوا بالكراهية والاكتئاب، فاخدوا طريق تانية. كانوا مؤمنين إنه الإنسان بالأصل طيب.
إستر كوراني, المديرة المشاركة الإسرائيلية, مقاتلون من أجل السلام
وبعد ٧٥ سنة، كانت إستر قاعدة مع عيلتها بتل أبيب لما صحّوا على صفارات الإنذار صباح سبعة أكتوبر ٢٠٢٣. بتحكي: "بتذكر الخوف عولادي، واللحظة اللي سألت فيها: شو اللي بصير؟ بهداك اليوم ما كنا فاهمين حجم المصيبة". الرسائل والأخبار كانت مثل السيل، خصوصًا من شبكة النشطاء تبعت الحركة، وكثير منهم إلهم ناس بغزة. بتحكي: "حتى لو أنا ناشطة سلام… أنا إسرائيلية، وأنا هدف." وكانت عارفة إنه اللي رح ييجي على أهل غزة رح يكون أسوأ.
رسائل الواتساب وصلت بنفس اللحظة. المكالمات أخدت ساعات كمان. بس إنّه الناس يرجعوا يتجمعوا ويتماسكوا كجماعة هاد احتاج كم يوم. الكل كان مصدوم. فريق “محاربون من أجل السلام” — وهو مجموعة فلسطينية وإسرائيلية بيشتغلوا سوا بلاعنف عشان ينهوا الاحتلال ويبِنوا مستقبل فيه سلام – صاروا يسترجعوا أول لحظات اللي صار، وعيونهم للأرض، ورؤوسهم تهزّ وكأنهم بدوّروا على كلام مش لاقينه.
أفنير ويشنيتزر، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب والمؤسس المشارك لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، يقف لالتقاط صورة له تحت شجرة زيتون في الساحة الجانبية المجاورة لمكتب المنظمة في بيت جالا.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
أفنير ويشنتر، أستاذ تاريخ بجامعة تل أبيب ومؤسس مشارك لحركة، "مقاتلون من أجل السلام" بحكي: "اللحظة الراهنة هي أصعب ما مررنا به على الإطلاق في هذه الأرض. إنها بلا شك أفظع لحظة، وأكثرها إرباكًا، وأكثرها رعبًا، بل وأكثرها يأسًا مما أتذكره".
أفنير كان قبلها عضو بوحدة كوماندوز نخبوية بالجيش الإسرائيلي، متمركزة بتلال جنوب الخليل بأول الألفينات. وهناك، فهم اللي رَبّوه عليه من هو صغير — إنه إسرائيل “ملجأ آمن لليهود وديمقراطية ليبرالية” — بلّش ينهار. شوي شوي صار يشوف القمع المنظّم، وواجه التناقض اللي جوّاته. بنهاية ٢٠٠٤ رفض يخدم بالأراضي المحتلة، وصاروا يسمّوه “رافض خدمة”. وبعد كم شهر، هو وكَم واحد غيره من الرافضين اندعَوا على بيت لحم، عشان يلتقوا فلسطينيين عندهم نفس الفضول وبدهم يفهموا أكتر "الرافضين". التوتر اللي كان بهداك اللقاء، وطريقة الناس تنفّست فيه… مبينين بشكل قوي بفيلم “إزعاج السلام” اللي بيحكي قصة تأسيس الحركة.
لا يهم أن أكون ناشطًا في كل هذا... كوني إنسانًا، بالنسبة لي، هذا أمر صعب للغاية.
أفنير ويشنيتزر, مؤسس مشارك, مقاتلون من أجل السلام
انحنى أفنير على طاولة خشب تحت شجرة زيتون، بالساحة جنب مكتب حركة "مقاتلون من أجل السلام" ببيت جالا، وكانت نبرة صوته واطية وجافة. "اللي بصير بغزة زي ماكينة ضخمة عم تطحن كل شي. وإنت بتشوفها بعينك. وما في ولا شي بإيدنا نوقفها—ولا شي. إحنا بنعيشها ٢٤ساعة. من لحظة أصحى لآخر ما أنام، هي معي — بمظاهرة، بوقفة، باحتجاج، بندوة—شو ما كان. دايمًا معي، وبحلم فيها. شعور اليأس قوي… قوي كتير."، ضغط على كتفيه للأسفل بينما كانت الكلمات ثقيلة. "ثم هناك العار".
سؤال إذا إسرائيل عم تعمل جرائم حرب — أو حتى إبادة جماعية — مش سؤال أغلب الإسرائيليين مستعدين يواجهوه. وبرضه كتير فلسطينيين بينكروا الجرائم الجنسية اللي صارت بـ7 أكتوبر. أفنير بحكي: "من الطبيعي أن نرغب في إشاحة أنظارنا، والإعلام يساعدنا على تجنب كل ما هو مزعج. نعيش في فقاعة تحيط بنا قبة حديدية عقلية تحمينا. أي شيء يحاول اختراق هذه القبة يُعترض. وحركة "مقاتلون من أجل السلام" هي في جوهرها محاولة للاختراق".
أفنير ويشنيتزر، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب والمؤسس المشارك لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، يقود مناقشة مع أحد مؤسسي منظمة "مقاتلون من أجل السلام"، سليمان الخطيب.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
قبل ما أحكي مع أفنير، كانت حركة "مقاتلون من أجل السلام" عاملة عرض لفيلم “هناك طريق آخر” ضمن برنامج “مدرسة الحرية الإسرائيلية”. مجموعة من ١٥–٢٠ شاب وشابة إسرائيليين (أعمارهم ١٨–٢٤) إجوا على الضفة —لبعضهم أول مرة بحياته — عشان يتعرّفوا على اللاعنف ويسمعوا روايات تانية. سألت وحدة منهم: كيف كنتِ متخيّلة الضفة؟ حكت: "منطقة حرب." صدقها لمسني… مع هيك خلتني أستغرب من الجزَمة اللي لابستها. بس المهم إنها إجت تتعلّم. تم إعادة ترتيب المكتب إلى صفوف من المقاعد قدام شاشة العرض يلي عبر الشبابيك على الحيط البعيد. مع تحول الضوء إلى ظلام، حسّيت الطلاب عم يستعدوا. الدموع نزلت وهم يشوفوا لحظات ذاك الصباح — كاميرات جسم، تسجيلات ناس محبوسين بغرف آمنة، صوت رصاص وبعدين قنابل… والترجمة كانت: "ماما، إنتِ بخير؟؟… مامااا؟!" وأكتر حركة كانت لمسات خفيفة على الأرجل. وهي الحركات الوحيدة التي يمكن ملاحظتها من قبل الطلاب.
(أعلى) طلاب يشاهدون عرضًا لفيلم " هناك طريق آخر" في مكتب منظمة "مقاتلون من أجل السلام". سافرت هذه المجموعة، التي تضم 15-20 شابًا إسرائيليًا تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا، إلى الضفة الغربية - بعضهم لأول مرة في حياتهم - ليتعلموا عن اللاعنف ويستمعوا إلى روايات مختلفة. (أسفل) كورين، طالب إسرائيلي ساحر وفضولي للغاية من عائلة "يهودية جدًا" ذات ميول يسارية، يقف لالتقاط صورة ويشارك في مقابلة خلال برنامج تعليمي لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام".
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
يقول أفنير: "معظم الإسرائيليين – وكذلك الكثير من الفلسطينيين بالمناسبة – لن يصمدوا طوال الفيلم. سيغادرون غاضبين. لذا، هؤلاء الناس فضوليون وغير مرتاحين. لهذا السبب جاؤوا إلى هنا في المقام الأول". كورين، طالب إسرائيلي لطيف وفضولي من عائلة "يهودية للغاية" ذات ميول يسارية، إجى يدور على شي غير الغضب والعنف. شارك بمظاهرة حامل لافتة عن الأطفال الفلسطينيين اللي بنقتلوا، وصورته انتشرت بالمدرسة اللي بيدرّس فيها —وجات عليه هجمات وتنمّر عبر الإنترنت. الطلاب صاروا يفهموا إن المقاومة إلها ثمن… وإن التعاطف بهالأيام… شبه ممنوع.
يقول أفنير: "التعاطف غريزي كالعدوان. لكن لسنوات عديدة، وتحديدًا منذ السابع من أكتوبر، كدنا نحظر التعاطف ونبالغ في تضخيمه. أعتقد أن الكثيرين يشعرون بالتعاطف بطبيعتهم تجاه طفل صغير يتضور جوعًا، لكنهم يضطرون إلى كبت هذا التعاطف".
ولما خلص الفيلم، راحوا الشباب الفضوليون إلى غرفة مساعدة ليتناقشوا مع أفنير وأحد مؤسسي "مقاتلون من أجل السلام"، سليمان الخطيب.
أفنير ويشنيتزر، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب والمؤسس المشارك لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، يقود مناقشة مع أحد مؤسسي منظمة "مقاتلون من أجل السلام"، سليمان الخطيب.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
النضال من أجل الحرية
نشأ سليمان في قرية حزما شمال شرق القدس، لعائلة فلسطينية أصيلة تعود جذورها إلى القرن الخامس عشر، وموثقة في السجلات العثمانية. لما كان مراهق، سجّل سليمان بحركة الشبيبة الفتحاوية وصار “مقاتل حرية”. وهو عمره ١٤، خياره العنيف ودّاه على السجن لحد منتصف العشرينات من عمره. والمفارقة إنه هُناك بالضبط بدأت رحلته مع التعلّم وممارسة اللاعنف.
في مكتبة السجن – اللي بسميها "الجامعة الثورية" – درس حركات المقاومة، ونماذج نيلسون مانديلا والدكتور مارتن لوثر كينغ الابن، وتعلم اللغتين العبرية والإنجليزية بنفسه. وشاف فيلم "قائمة شندلر"، اللي غير حياته. يقول: "اكتشفت إني كنت غلطان بعدوي. كنت أفكّر إنه العدو هو الشعب اليهودي، بس كنت غلط. في الحقيقة إحنا إلنا أعداء مشتركة: الكراهية، الخوف، والصدمات الجماعية".
سليمان الخطيب، المؤسس المشارك لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، يقف لالتقاط صورة له تحت شجرة زيتون في الساحة الجانبية المجاورة لمكتب المنظمة في بيت جالا.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
وهلّق وهو بيحكي مع الطلاب اللي قاعدين على المخدّات على الأرض ومصطفّين على الجدران، ممكن يكون سليمان أول فلسطيني بيقعدوا معه بحوار صريح وصعب بهالشكل. في كتير عوائق بتخلي هيك لقاءات نادرة جدًا. يقول سليمان: "موضوع الروايات والحقيقة مهم جدًا، لأنه كل واحد فينا عنده قصة موروثة من جيل لجيل، بالعيلة وبالمجتمع. وبصراحة، الواحد بيحس إن هي الحقيقة الوحيدة. ومن الصعب كتير إنك تترك مجال لرواية بتتعارض مع روايتك… الموضوع مش سهل". بس من اللي أنا بقدر قوله، هاد بالضبط المكان اللي بتبدأ فيه المقاومة اللاعنفية – انك تفتح قلبك لرواية شخص آخر وتخلي مساحة لتلك الرواية لتكون جنبًا إلى جنب مع روايتك الخاصة. بتبدأ إنك تسمع وجهات نظرمختلفة وتتعلم تسمع الروايات المتوترة بلطف.
وهذا مش إشي جديد. المجتمعات العربية الأصيلة اللي زي المجتمع اللي سليمان كبر فيه بيمارسوا “الصلحة ”، وهي عادة تصالح عابرة لأجيال. على مدى آلاف السنين، زعماء العشائر من كل الأطراف المختلفة — سواء الخلاف على أرض، أو ميراث، أو زواج، أو طلاق، أو سرقة، أو عنف — كانوا يجتمعوا للحكي، والسمع، وللتمييز بين الحق والباطل، ولحل المشاكل. وفيه خطوات معروفة. يقول سليمان: "أنا كبرت ببيئة فيها أكثر من حقيقة وأكثر من رواية. هاد ساعدني كتير بسنين السجن. بحس حرية بهالإشي — إني مش محصور بالرواية اللي تربّيت عليها".
سليمان الخطيب، أحد مؤسسي منظمة مقاتلون من أجل السلام، يجلس في الساحة بجوار مكاتب منظمة مقاتلون من أجل السلام في بيت جالا.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
أخلاقيًا، إحنا إلنا قوة. وأنا بحس بقوة كبيرة. ومن تجربتنا الشخصية، بنعرف إنه ما في حل عسكري. هالظلام مش صحي لحدا—ومش رح يضل.
سليمان الخطيب, مؤسس مشارك, مقاتلون من أجل السلام
من اللقاء الأول بين سليمان وأفنير وآخرين، حركة محاربون من أجل السلام صارت واحدة من أهم الحركات اللي بتشتغل على طريق اللاعنف. انطلقت رسميًا بعد الانتفاضة الثانية (٢٠٠٠-٢٠٠٥) وقبل ما حماس تمسك حكم غزة سنة ٢٠٠٧. وخلال كل هالسنين، آلاف الإسرائيليين والفلسطينيين شاركوا بفعالياتهم المشتركة: فعاليات ذكرى، احتجاجات، وجود حمائي، وبرامج تعليمية. والحركة انرشّحت لجائزة نوبل للسلام مرتين. هون، قدّام الديناميكية والضغط اللي بيواجهوه كل يوم، بلاقي نفسي أقل مهتمّة بسؤال “شو الأثر؟” وأكثر مهتمّة بسؤال “كيف بيضلّوا ثابتين؟ كيف بيكمّلوا؟ وكيف محافظين على اللاعنف كـ طريق.
وهل ممكن يكون في حرب أشد ضراوة من اللي صايرة اليوم بغزة؟
هلّق فاطمة قاعدة قدّام الطلاب، والمترجمة جنبها. عمرها 31 سنة، ناشطة سلام، ومن غزة. خلصت بكالوريوس بالخدمات الاجتماعية سنة ٢٠١٥ من جامعة بغزة — اللي اليوم صارت ركام. وبأيام الدراسة، كانت تشتغل مسعفة مع الهلال الأحمر (الصليب الأحمر في العالم العربي)، وهيك خلاها تكون أول شخص يوصل لمكان أي أزمة.
تمسح فاطمة دمعة أثناء مقابلتها في بستان الزيتون بجوار مكتب منظمة المقاتلين من أجل السلام.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
وهيك سمعت لأول مرة أمر إخلاء شارع نيل – "المنطقة التي كنا نعيش فيها" – خلال حملة قصف إسرائيلية عام ٢٠١٤. كانت عائلتها بأكملها تعيش في نفس المبنى المكون من سبعة طوابق: الأم والأب والعمات والأعمام والإخوة والأطفال. تتنهد قائلة: "عمارتنا استهدفوها بصواريخ وقذائف، وانهدّت ". "اشتغلت بكل طاقتي احاول أطلّع الأطفال، أمي وأبوي… وكل حدا من عيلتي قدرت أطلّعه من تحت الركام ". لكن شقيقها وزوجته الحامل بتوأم ما قدروا يتحركوا. لذلك بقيت معهم . تقول: "كنت مفكّرة الأمور رح تهدى وبعدها أقدر أطلّعهم".
كانوا محتمين في القبو يحاولون تنسيق عملية إخلاء مع الهلال الأحمر والصليب الأحمر، بس خلال دقائق، سقط صاروخ آخر وانهار كل شيء. ظلوا تحت الأنقاض ثمانية أيام. وبشفة عم ترجف وبدموع نازلة، أخبرتنا أن شقيقها فقد ساقه وزوجته فقدت التوأم. "كانت تسألني:وين أصحابك؟ الإسرائيليين اللي بتحكي معهم؟ وين نشطاء السلام اللي بتنسّقي معهم؟ "بعد ثلاثة أيام متتالية من النزيف، توفيت زوجة أخيها.
"هذا أصعب شي مرّيت فيه بحياتي. فقدنا الأمل إنّا ننجو." بعد دقيقة كملت بعد ما اخدت نفس. "بس رغم إنه التجربة مؤلمة جدًا وكثير ناس فقدت الأمل، أنا قررت أكمل. قررت أخلّي صوتي، وصوت أهلي، وصوت زوجة أخوي… يوصل. أحكي مع النشطاء الإسرائيليين، وأحكي مع الجيل الجديد—جيل المستقبل. كنت بدي أحافظ على الأمل."
خلال العقد اللي مرّ على هداك اليوم، فاطمة اشتغلت للسلام مع نشطاء إسرائيليين كثير. واحدة من هدول كانت فيفيان سيلفر — الكل كان يوصفها إنها طيبة، شجاعة، وروحها منوّرة. فيفيان كانت ساكنة بكِّيبوتس بئيري، على بعد ٤ – ٥ كيلومتر من غزة، وانقتلت ببيتها يوم ٧أكتوبر. قصتها موجودة بفيلم "هناك طريق آخر" اللي عمله ابنها يوناتان زيغن، واللي مكمل طريق أمّه اليوم بالدفاع عن المساواة وحقوق الفلسطينيين.
علينا أن نستمر بالإيمان. إذا توقفنا عن الإيمان، توقفنا عن الوجود.
فيفيان سيلفر, ناشطة سلام إسرائيلية
يشارك الطلاب في البرامج التعليمية لمقاتلين من أجل السلام.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
تقول فاطمة: "الموضوع مش سهل بالمرة. بس كل مرة بسمع فيها خبر سيّئ من عيلتي، بحسّها دافع أكبر إني أكمّل وأقابل مجموعات إسرائيلية الأخرى. بحسّ إنه لازم أحكي معهم. لازم أوصلهم الصورة الصحيحة عنّا — كيف إحنا عايشين بغزة، كيف إحنا بنتنفس… ومن سنة ٢٠٠٧ وإحنا تحت حصار. ما منقدر نسافر، ما في كهربا، ما في مي. الحياة صعبة بشكل لا يوصف. إحنا بس… عايشين. مش أكتر."
في عام ٢٠١٩، أخدت فاطمة القرار الصعب إنها تطلع من غزة وتبلّش حياة بالضفة، وتكمّل شغلها كناشطة سلام. وبست سنين ما شافت فيهم أهلها، تزوّجت فاطمة وخَلَّفت ولدين.
الطلاب كانوا معلّقين بكل كلمة بتحكيها. ولما وصلت الباصات، وإجى وقت رحيلهم، فاطمة قالت: "بدي أحكي شوي عن يوم 7 أكتوبر: عنّي وعن عيلتي — إحنا ضد ومدينين اللي صار ب٧ أكتوبر وكل اللي تبعه." وبالقصف اللي إجا بعده، عيلة فاطمة تهجّرت كتير، وبيتهم انقصف ست مرات. تقول: "كانوا مفكّرينها أسبوع… شهر… شهرين… بالكتير ثلاثة. بس صار تقريبًا ثلاث سنين والدم لسه ما وقف ". "إسرائيل مش بس بتقتل الناس—بتدمّر الحجر، الحيوانات، كل شي حي… هاي إبادة جماعية شاملة."
يشارك الطلاب في البرامج التعليمية لمقاتلين من أجل السلام.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
في ١٣ أبريل ٢٠٢٥، كانت فاطمة قاعدة تحضر أخبار قصف مستشفى الأهلي الإنجيلي وبنتها الصغيرة بحضنها. تقول: "فجأة… شفت عيلتي هناك. شفت حمد، محمود، سامية، كلهم غرقانين دم وتراب. وبعدين المصوّر ركّز على زوجة أخوي، كانت شايلة بنتها، عمرها 13 سنة وشفتهم وهم بيقطعوا رجليها… بدون تخدير". فاطمة ما بتعرف شو صار بعدها، بس بتعرف إنها فقدت الوعي. مر ثلاثين إلى اربعين يوم لتقدر تتواصل مع عيلتها وتفهم شو اللي صار. تعترف قائلة: "أنا بخلي الصور على جوّالي… لأنها بطريقة ما بتعطيني قوة. ما بعرف كيف. بصراحة… ما بعرف من وين بجيب القوة لأكمّل. بس ضل عندي أمل إنه يوم من الأيام نحكي مع حدا ضميره يصحى… ويعمل إشي يوقف هذي المجزرة."
فاطمة تعانق أحد الطلاب خلال البرنامج التعليمي لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام".
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
وبلحظة، حسّيت إنه نبتت بذرة أمل صغيرة. الطلاب كلهم اصطفّوا عشان يشكروها. واحدة من الطالبات سألتها: "ممكن أعطيكي حضن؟" وبشوف أختي الغزّاوية، المسلمة، الشجاعة، المرأة اللي بتحارب كرمال حقوق إنسانية بسيطة ومساواة، كيف بتحوّل وجعها لحجر أساس لمستقبل أحسن، وكيف بتفتح قدّام هالشباب نافذة على رواية أعمق يحملوها معاهم. وبدموع ظاهرة ومخفيّة… من جوّا ومن برّا… كانت فاطمة مجسَّدة الأمل، لأرض وللمستقبل اللي لازم يكون خالي من خراب الكراهية وسُمّ العنف.
آخر أمنية إلي… إن الحرب تخلص. وإنه حماس تطلق سراح الأسرى. وإنه إسرائيل توقف الحرب. وإنه نعيش كلنا بسلام.
فاطمة, ناشطة سلام, مقاتلون من أجل السلام
ساحل البحر الميت.
صورة فوتوغرافية بواسطة ستيف جيتر
عشاء على البحر
كفى حرب. مرحبًا بالسلام، هكذا أعلن السياسيون من قمة مصرية مع انتهاء حرب غزة. امتلأت قنوات الأخبار ومجموعات الواتساب بالتنهيدات والاحتفالات، امتزجت الأفراح بالأحزان مع إطلاق سراح ١٩٦٨ أسير فلسطيني من سجون الاحتلال، وآخر دفعة من الرهائن الأحياء رجعت لعائلاتهم. وكانت اللحظات المؤثرة تبث في إسرائيل على الهواء مباشرة: دموع، صراخ، نحيب، بينما تُنقل حافلات المعتقلين الفلسطينيين جنوبًا نحو خانيونس.
توقفت القنابل ونزيف الدماء (أو فعليًا… هل وقفوا؟) والغبرة بلّشت تنزل على الخراب، ووزن الصدمة الجماعية بلّش يتكدّس على الصدور. صفحة انتهت… وصفحة انفتحت، الورق فاضي قدّامنا. هل الطرفين شبِعوا من الدوامة؟ هل جذور السلام ممكن تثبُت؟
يقوم أحمد بجمع الإمدادات لتوزيعها على مختلف المدن الصحراوية في شمال وادي الأردن.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
أرسلت رسالة لأحمد، فأجابني: "إحنا مش عارفين. ولسه خايفين على مستقبلنا، مستقبل الشعب الفلسطيني ." أحمد أصله من غزة، لكنه تربى بأريحا. مثل أغلب أهل فلسطين، تربى على قصص التهجير القسري وعنف الاحتلال. هالشي خلّى جوّاته غضب صاحي، غضب خلاه وهو صغير ينضم للمقاومة. بعمر عشر سنين استعمل الحجارة والعصي، بعمر ١٥ سنة، صار مع حماس، وكان يصنع أعلام فلسطين، اللي يعتبر اذا نرفع جريمة. ولما صار عمره عشرين، انحبس. وهناك، سنة ١٩٩٣، وُقّعت اتفاقيات أوسلو في واشنطن. يقول: "قبل بيوم كنا أعداء. بنرجم بعض وبنطلق رصاص. تاني يوم صرنا أصدقاء — إحنا والجنود — نتبادل ورد ونتصافح ".
ومع وعد جديد بالسلام، طلع أحمد من السجن متصالحًا مع نفسه، كان عنده أمل جديد إنه يعمل شي لبلده. صار سائق إسعاف مع الهلال الأحمر، وأخد دورات إسعاف أولي وقيادة وتواصل. جمع شباب يتطوعوا بالمدارس ودور المسنين والمستشفيات. سنة ١٩٩٦، وسط مواجهات عنيفة بالقدس، وصله نداء الإسعاف. شاف شاب واقع على الأرض. حمله بين إيديه، ولما لفّ وجهه، اكتشف إنه صاحبه القديم من أيام الطفولة، ركض فيه للإسعاف… بس قبل ما يوصل، انصاب أحمد من وراه. نجا بأعجوبة — لدرجة إنه أصحابه وأهله كانوا حافرين قبره سلف، خايفين يرجع جثة زي صاحبه اللي حمله. اليوم، بعد ٣٠ سنة، لسه الرصاصة نايمة برقبتُه، وهو بحكي هالحكاية بابتسامة خفيفة.
يتم توزيع الإمدادات في جميع أنحاء المدن الصحراوية في شمال وادي الأردن من قبل متطوعي منظمة مقاتلون من أجل السلام.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
يحذر أحمد، الهدنة اللي منشوفها اليوم ولا إشي ثابت. هشة، وكل شي فيها لسه معلّق, ومش معروف مين أصلاً اللي رح يقرّر مصيرها." وبرغم الهدنة، القصف لسه يومي، والأكل شحيح، والشهداء بعدهم بيزيدوا.
مع السنين، المنقطة شهدت أكثر من وقف إطلاق النار – كلها ربطت بوعود غير منتهية. لا أحد يثق، فقط أمل حذر، وهذا الكلام متكرر بين خمسين ناشط تجمعوا في ندوة نظّمتها "مقاتلون من أجل السلام". المجموعة حلقة واحدة كبيرة: نساء ورجال، شباب وكبار، فلسطينيين وإسرائيليين، مسلمين ومسيحيين ويهود ووملحدين. أنا قاعدة بين شابين بعمر العشرينات — على شمالي أورِي، أول يوم إله بالنشاط، وعلى يميني نوعام، ناشط شاطر، أنيق وبعرف لغات، وقاعد بلطّف عليّ بالترجمة.
موشون، أستاذ تصميم وممثل عن "أرض للجميع"، شارك بورشة عمل: "المستقبل أكتر نقطة ضعف الإنسان ممكن يكون فيها. ولهيك، هذا المكان اللي اليوم راح نستكشفه سوا. بدنا نخلي المستقبل أوضح، ونحاول نشوف بالضلمة".
تم عرض الهواتف الورقية خلال ورشة عمل بقيادة موشون، أستاذ التصميم وممثل منظمة أرض للجميع .
صورة فوتوغرافية بواسطة كيت شميدجال
خلال الورشة اشتغل موشون وزملاؤه مع المجموعة على تخيّل المستقبل. على طاولة ورا القاعة، رُتبت أوراق بيضاء بجانب سلال أقلام ملونة. وأغنية "المستقبل مش زي ما كان" لميكي نيوبري بتلفي بالجو، بتحاول العقول تحمل نفسها للمستقبل البعيد: رسائل نصية لأحبتهم، خرائط جديده وحدود معالمها غير واضحة، أو أخبار عاجلة عن هذا اليوم المأمول. ما هو المستقبل الذي تتخيله؟
بعدين، جمع موشون الإجابات وعلقها على خيط من "الآن" لثمانين سنة لقدام، بمقياس رأسي من إيجابي (نطمح له) وسلبي (نخشى حدوثه). واحدة من البنات شاركت رسالة صوتية "يمّا، تركنا بيت لحم، وراجعين نشوفك بتل أبيب بعد شوي… متحمسة نتعشى سوا عند البحر!" علقنا الحلم على الحبل – أمل معلق لثمانين سنة لقدام.
هواتف ورقية كتبها المشاركون ردًا على السؤال: ما الذي تتخيله في المستقبل؟ خلال ورشة عمل أدارها موشون، أستاذ التصميم وممثل منظمة أرض للجميع .
صورة فوتوغرافية بواسطة كيت شميدجال
الأحلام بسيطة… بشرية… أساسية، بس كلها بتحتاج حركة تنقل. المشهد يحتاج توضيح: أكتر من ١٠٠٠ بوابة حديدية صفراء رُكّبت سريًا خلال حرب غزة، مسكّرين الطرق ومصعبين حياة الفلسطينيين. رنا سلمان، المديرة الفلسطينية لمقاتلين من أجل السلام، بتحكي: "بيت لحم صارت مثل الغيتو، محاطة بجدار". "كل يوم بتزيد قيودنا وصعوبة حياتنا وسيطرة الاحتلال. هاي تذكرة أننا مش أحرار".
تلتقط رنا سلمان، المديرة الفلسطينية المشاركة لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، صورة في مكاتب المنظمة.
صورة فوتوغرافية بواسطة ديفيد جونسون
ورغم أن رنا شريكة بإدارة "مقاتلون من أجل السلام" من أربع سنوات، إلا أن أحداث السابع من أكتوبر جعلتها بؤرة اهتمام عالمي، وصارت وسائل الإعلام العالمية تدور حولها. تقول: "كان لازم أختار: أكون شجاعة ولا جبانة. العالم كان مستنينا نحكي". اليوم، صارت وجه المنظمة. "أوقات بخاف، لأن السلمية صارت أخطر من العنف، إسرائيل بتخاف من السلمية أكتر، فكل شيء عليه مسؤولية".
مستقبلنا مرتبط ببعض. لما ننادي للحرية، إحنا بننادي لتحررنا جميعًا – مش بس للمظلوم، بل حتى للظالم،" تقول رنا. "إحنا عارفين إنو إحنا قاعدين بالأرض – إحنا والإسرائيليين – وما في غير نلاقي طريق نعيش سوا بكرامة وعدالة".
(يسار) رنا سلمان، المديرة الفلسطينية المشاركة لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، تقف لالتقاط صورة بجانب شجرة زيتون بجوار مكاتبهم. (يمين) أفنر ويشنيتزر، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب والمؤسس المشارك لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، يقف لالتقاط صورة مع المؤسس المشارك الآخر لمنظمة "مقاتلون من أجل السلام"، سليمان الخطيب.
صور بواسطة ديفيد جونسون
اللي بنحاول نعمله اسمه إعادة إنسانية. هو زي لما بدك تفرّغ البحر بملعقة، بس هذا الموجود بإيدينا.
أفنر ويشنيتزر, مؤسس مشارك, مقاتلون من أجل السلام
مع مغيب الشمس، ركبت تاكسي من ندوة بيت لحم وطلعت ع بحر تل أبيب. غمست رجلي بالرمل الدافئ وقعدت على كرسي بلاستيك برتقالي منثور قبالة الأمواج، معي شاورما ساخنة من محل الحارة. وبين صخب البحر وأمواجه بلا توقف، حسيت بحزنه يلفني – كل هالمعاناة ابتلعها وبيبتلعها كل يوم. بفكر بالناشطين اللي قبل ساعات حلموا بنفس هذا المشهد وهذه اللحظة. الرحلة الي عملتها تجسيد لمستقبلهم الآمن الحر اللي كلنا بنحلم فيه. بتذكر مطالبهم من المجتمع الدولي اللي بخصني مثلهم:
"اختاروا الإنسانية"، قالت إستر. "سهل من برة تختار طرف، بس اللي بنفع الكل هو الدعوة للسلام العادل، والعيش سوا، وهو ممكن. إحنا بنتعلم نعيشه يوميًا".
يقوم موظفو منظمة مقاتلون من أجل السلام بإعداد الإمدادات لتوزيعها في مكاتبهم.
صور بواسطة ديفيد جونسون
لا تحكوا عنا بدوننا، تقول رنا. إذا عن جد بدكم تكونوا جزء من الحل، لازم تسمعوا صوت كل الناس اللي بتعاني من هالصراع. لازم نكون جزء من النقاش، شئتم أم أبيتم. كل واحد هون لازم يشارك بالسلام.
مع رنا وإستر، وسليمان وأفنير، وإيلي وكاي، وفاطمة وأحمد، وأورِي ونعوم – إحنا مش مستعدين نتجاهل عقود التحول والعمل الجماعي اللازم عشان المستقبل يكون غير عن الماضي. خلينا نتمسك بقدرتنا على الحوار حتى لما تبهت الكاميرات وتختفي العناوين. وما نتركهم، وهم ما زالوا يطالبوا بالعدالة.
عشان هيك، لازم كل العالم يرفض أصوات القمع والعنف والاحتلال، ويدور على أصوات الحرية والكرامة للجميع. لأجل الحياة.
هذه هي رؤيتنا للمستقبل الذي نصبو إليه. نشأنا على خرافة عدم وجود شريك للسلام، لكننا نُظهر عكس ذلك تمامًا منذ أكثر من عشرين عامًا.
رنا سلمان, المديرة المشاركة, مقاتلون من أجل السلام